ثمة حميمية غريبة تنتابني اتجاه كل شيء قديم ,وارتباط عاطفي قوي ومخيف يجذبني إلى الماضي والطفولة..
أحن إلى كل شيء قديم ودوما أفضله على الجديد مهما تفوق الأخير في ميزاته وخصائصه عن الأول ..
لا زلت أذكر أول حقيبة حملتها على كتفي في سنتي الابتدائية الأولى, ركزت في كل تفاصيل الحقائب بعدها في المحلات واحدا واحدا ,ولم أكن لأجد ما يشبهها أو حتى ما يجذبني ويحدث شيئا من الألفة كما كانت تفعل حقيبتي الأولى ..
لا زلت أذكر جيدا مكتبة الهندي سعيد المقابلة لدكان حبابي, لم تكن أفضل المكتبات في حينا وقتها , ولكنها كانت الأقدم ,والأجمل بكل تفاصيلها القديمة في داخلي, وحده الهندي سعيد من كان يبيع مساحات على شكل كاميرا بألوان شتى , وأذكر أن أول ممحاة اشتريتها من هذا الطراز كانت زرقاء..
الألم الحقيقي والذكرى الحميمية للماضي جميعها تتجلى في بيت حبابي(1) ,حيث كان كل شيء ,الحياة بالنسبة اللي كانت كلها تعني هناك , في بيت حبابي,حيث السنوات العشر الأولى ,مغامرات الطفولة والحماقات والشقاوة,شوارع السفالة, مدرسة المتنبي,دكان حبابي,الهبطة,بيت عمي صالح,شيماء المصرية,هلال الذي رحل سريعا,المطعم الذي علمنا ان نضع الدغوص على الخبز والجبن ونضيف مخلل الجزر اليه ليكتمل ساندويش الطفولة..
كل هذه التفاصيل وتفاصيل تفاصيلها لا زالت تختزنها ذاكرتي , وينفطر قلبي كلما استرجعتها ..
صنعت كل هذه التفاصيل الصغيرة طفولة أعتبرها مثالية وتستحق أن تروى ,إذا ما قارنتها بطفولة الأجيال الراهنة التي تتمثل في السينما والسيتي سنتر والبلاي ستيشن والانترنت الذي لا يمكن تناسيه, طفولة ميتة تخلو من الحياة والتفاصيل ..
أبكي اليوم على كل الذين صنعوا ماضي روايتي ,على الأعمدة الحقيقية التي كنت أستند عليها ومنحتني الكثير جدا من الأمان وجنبتني مخاوف كثيرة..
رحل جدي أهم عمود لذلك البيت الذي صنعني أنا التي أكتب هذه الكلمات الآن ,رحل لينهدم بعده الجزء الأكبر من أساس هذا البيت العظيم,..
ألم يعلم أنه برحيله سوف يحملنا الكثير من العبء والخوف من أن ينهد البيت ويقع فوق رؤوسنا في أية لحظة!
ألم يكن هو من يضيء الحي بأكمله بدكانه الذي كان معبرا لكل نزيل إلى المدينة!
ألم تكن تنتظر اليوم الذي أتخرج فيه من الكلية وأحمل فيه شهادتي!
جدي العزيز:
اليوم أحمل شهادتي بين يدي ولكنني لا أبصر الطريق أمامي ,ثمة إحساس بعدم الأمان يغلف روحي ,لم أعد أرى جيدا ,والكثير من الضباب يضلل طريقي ..
بعد رحيلك بت أخاف من كل شيء , انهد جزء كبير من داخلي ,أغلقوا دكانك ولكن اللوحة التي نقش فيها أسمك لا زالت موجودة كما تركتها,لكنها لم تعد واضحة , ولم أعد أستطيع قراءة اسمك عليها من بعد,ولم تعد سيارتك البيضاء واقفة تحت شجرة الشواب أمام مكتبة الهندي سعيد.
كل شيء تغير بعد رحيلك,نعم كل شيء........
لأول مرة أكتب بهذه السرعة وأتمنى أن لا أتوقف أبدا .
اليوم أغلق باب بيتك يا جدي إلى الأبد , وربما قريبا جدا سيهدم..
هاهي جدتي تلحق بك بعد سنوات ثلاث ,لتغلق خلفها الباب الذي لن يفتح أبدا..
كل الأشياء في تلك البقعة باتت موحشة ,كئيبة,قاتمة
برحيلكما مات كل شيء بالنسبة اللي,الماضي ,الطفولة,الذكريات,الأمان ولم يبقى شيء سوى الخوف والدموع..
لا أدري إن كانت ثمة طريقة يمكن أن يتصالح بها المرء مع حقيقة الموت والفقد, أم أنني انشد شيئا مستحيلا؟
لا أعلم كم من الزمن يلزمني كي أستوعب حقيقة أنه لم يعد هنالك بيت حبابي وذكريات الطفولة ؟
في كل ليلة أحتضن فيها وسادتي يأتيني التساؤل ذاته:من سيكون التالي؟
استرجع في عقلي صور كل الأقربين ,وأهيئ روحي لفقدهم في أية لحظة قادمة ,قد تكون قريبة جدا.
تمر ساعات الليل سريعة باردة أبحث في داخل نفسي عن شيء من الدفء أو بعض من الأمان لأقتات بها في أيامي القادمة ,لكنني في معظم الأحيان لا أجد شيئا ,نعم لم أعد أجد شيئا أتدثر به ,فأبكي طويلا..
يؤذن المؤذن لصلاة الفجر,أقف أمام الله راجية إياه بقوة أن لا يفجعني برحيل أحدهم قريبا ,أرجوك يا رب لا تفعل ...
أقول لأبي منذ أيام: لنرحل من هنا ,فلم يعد لنا شيء في هذه البلاد
بالفعل لم يعد لنا شيء هنا أبدا ,أشعر وكأننا نعيش في عالم لا يمت لنا بصلة,نحيا غرباء في بقعة من الأرض لم تعد لنا ,لا مكان لنا فيها..
كل شيء اندثر ,انهدم وضاع ورحل بلا عودة
جدي,جدتي,هلال,دكان حبابي,بيت حبابي,حتى اللوحة (متجر سليمان ال خليفين) ستزال قريبا من هناك,كرسي جدتي,شجرة الشواب
انتهى كل شيء,وأغلق الباب
لم يعد هنالك بيت حبابي
لم يعد هنالك بيت حبابي.........
(1):حبابي:جدي