بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 12 سبتمبر 2013

وهــــــــــم



ملاحظة:القصة أدناه خيال في خيال ,وستنتظرون النهاية طويلا : )                                                      
إلى أمل :
( نحتاج إلى شيء من الوهم والصمت لنعيش)

كانت فارغة جدا من كل الحكايات ,لكن مثلها لا يجدر به إلا أن يكون بطلا , لم تكن تعي بالضبط إن كان ذلك وهما إختلقته لنفسها لتعيش به نشوة الإمتلاء. لا يمكن أن نعتبر ما حدث مصادفة ,كل شيء يحدث لسبب ,وفي بعض الأحيان لهاثنا الدائم وراء هدف ما قد يقودنا إلى آخر مختلف تماما. وثمة أبواب قد تؤدي بنا إلى المنشود ذاته ولكن بطرق وزمن مختلفين.


بدا اللقاء الأول وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن, وكأن ما كان يدور من أحاديث وتبادل النظرات على استحياء من كليهما , ولحظات الصمت القصيرة , حدث في زمن سابق أو مقطع من فيلم أو قرأته في رواية ما.
لمخيلتها قدرة استثنائية على تخيل حكايات ورسم سيناريوهات وتعديلها في أزمنة لاحقة ثم تصديق ذلك كله وكأنه حقيقة,لكن الأمر هذه المرة كان بالفعل حقيقة, رغم كل هذا لم يتسنى لها في ما بعد ان تسترجع شيئا من حوارهما الطويل, كل ما بقى في ذاكرتها المعطوبة هو صوت صمتهما الذي سيطول لاحقا.


تبدو الحياة ساخرة جدا في أحيان كثيرة, تجعلنا فريسة خيارات محدودة غير محبذة,نقف عندها عاجزين عن فعل أي شيء سوى الإستسلام لها ,ونخوض غمار معارك كثيرة نتائجها في الغالب محسومة سلفا,وما إن نتأقلم مع تعاستها لتصبح جزءا منا حتى تفتح أمامنا  كل ما أوصدته من أبواب في زمن سابق.نكون عندها قد تصالحنا تماما مع تعاستنا التي باتت واقعا أكثر أريحية .


في مقهى الأسرار إلتقيت بها بعد غياب دام لعام وبضعة أشهر, ولمقهى الأسرار سر لم يعرفه عدا مجموعتنا التي تكونت من خمس مجنونات للقهوة عاشقات , افترق الشمل بعد أن تزوجت ثلاثا منا وبقينا أنا وهي في عداد الحرات الطليقات كما تسمينا هي والعوانس كما أسمينا أنا . أطلقنا عليه مقهى الأسرار لأننا كنا نجتمع فيه لنسمع في كل مرة سرا لا يخلو من مغامرة عاطفية لنصرخ كثيرا ونقهقه على حكايات لم تنجح منها إلا واحدة ,أو على الأقل هكذا خيل إلينا وقتها .  


جلسنا على الطاولة ذاتها في الجهة الغربية للمقهى , على الأريكة ذاتها التي تغير لونها إلى المارون . كانت إضاءة المقهى أقل حدة ورائحة القهوة فيه أكثر تركيزا . لم يتغير كثيرا,لكن غياب صديقتنا (جين) النادلة الفلبنية أشعرنا بشيء من الأسف.

 كانت تبدو شاحبة بعض الشيء ولون شيلتها الفاتح كان قد زاد الأمر سوءا, لكنه لم يخفي أبدا جمال وتناسق كل شيء في وجهها . صوتها الهادئ ووضوح مخارج حروفها عند الحديث يشعرني أحيانا بأنني أقف بين يدي خطيب فصيح له صيت طويل في الخطابة.


لطالما كنت أتشوق لحديثها الذي لا أمله ,كانت الوحيدة من كل الاخريات من نجحت في جعلي مستمعة جيدة . لحديثها سحر لا يمل ,وتستطيع دوما بأن تنقلك من حديث لآخر دون أن تشعرك بذلك .
سألتني- بعشوائية وكعادتها عندما تقفز من موضع لآخر ومبررها الدائم هو أن كل الأمور مربوطة ببعضها بروابط عجائبية أحيانا قد لا نكتشفها إلى بعد حين- :
-هل هنالك أشخاصا يمكن أن نلتقيهم بعد فوات الآوان !
وأردفت,
_ولكن الأوان لا يفت أبدا ,أليس كذلك؟
وأعقبت بسؤالين آخرين:
_ لكل شيء حكمة وسبب , لكن لم جاء في هذا التوقيت بالذات!
_ هل تتآلف الأرواح المتشابهة كما يذيب المثل المثل في الكيمياء !


صمتنا لدقائق بدت لي طويلة ,كنت أحدق بها وهي تفتح غطاء كوب القهوة لتعود لتغلقه من جديد مرات ومرات ..


عرفتها في سنتنا الدراسية الجامعية  الثانية , ولا زالت ذكرى لقائنا الأول عالقة في ذاكرتي وكأنها حدثت بالأمس . تحت شجرة كبيرة تتوسط قسم العلوم , كنا نستأنس تحت ظلها ونجتمع عندها لننقل من بعضنا  فروضنا الجامعية في الدقائق الأخيرة قبل  تسليمها.



 عرفتني عليها صديقة مشتركة ,بادلتني التحية بإبتسامة واستحياء نسيت وجوده بين صديقاتي الثرثارات . كانت تحتضن كتبها الدراسية كأم تمسك يد طفلها وهما يعبران الشارع.
.
بعد أن افترقنا عنها, قلت لصديقتنا المشتركة بسخرية : تبدو طالبة علم بإمتياز  ,فضربتني بكتابها الثقيل على رأسي.

لم يكسر حاجز صمتنا سوى صوت النادل :

-would you like to try our new cup cake mum! It’s for free

أجابته بهدوء كعادتها وبإبتسامة حزينة :
-No, Thanks


 تابعت حديثها بتردد واضح وبعشوائية مقلقة : إلتقيته ولم تكن مصادفة , وحدها الأقدار من تدرك وصوله في هذا التوقيت بالذات, لكنني أخشى أن يكون الأوان قد فات . كم سيلزمني من الزمن لأعرف.


تدركين جيدا يا صديقتي كم أمقت لعبة الزمن وما تمارسه علينا من سلطة نحن البشر المغفلين,لو نستطع فقط أن نتعايش مع حقيقة كونه وهما لا أكثر .
نحن بحاجة لكثير من الوهم والصمت كي نعيش. أوتدركين أن الحقائق المسلم بها هي في بواطنها أوهام !


صمتت قليلا ثم واصلت حديثها:

إلتقيته هنا في زمن لا أذكره لأنني لم أكن لأعترف به , ويا ليتني فعلت وقتها . كان يجلس على الأريكة ذاتها التي أجلس عليها الأن, يرتدي نظارة ذهبية تبدو صغيرة بعض الشيء على وجهه الممتلئ  الذي ظهرت فيه  تجاعيد تبدو حديثة . يستطيع الناظر إليه ان يلاحظ بوضوح كم يبدو هذا الوجه الممتلئ دائريا, وكأنه رسم بفرجار بواسطة معماري محترف . عيناه متوسطتا الحجم برموش كثيفة وجميلة ومرتبة ,بشرته المائلة إلى الحنطاوية ذكرتني بجارنا أبو محمد الذي يبيع السن توب المثلج أمام مسجد الحارة عصر كل يوم. رغم أن أنفه كان صغيرا بعض الشيء إلا أنه لم يكن ليقلل أبدا من جاذبيته. كمه بخيوط زرقاء كانت تفترش رأسه ودشداشته البيضاء كانت تحمل خيوطا بالسمك واللون ذاته. في يده اليمنى خاتم فضي ولم يكن يرتدي ساعة وهذا كل ما كان يهمني في الأمر.


مكث هنا لوقت طويل ,–أو على الأقل هكذا بدا لي وقتها- , لا أعلم كم من الحيوات مرت أو كم من التفاصيل استطاعت ذاكرتي المحشوة بالصمت أن تكتنز .




وللحديث بقية..


23:52pm
12-9-2013
Muscat