لي مع الموت حكايات ثلاث (2)
الحكاية الثانية : هلال
التاريخ: 27 شعبان 1996( إن لم تخني الذاكرة)
المكان: بيت حبابي الكائن في سفالة ابرأ
(1)
ابرأ
ثمة تفاصيل دقيقة تحتضنها الذاكرة بتعنت مدهش , ويعجز الزمن بكل أحداثه وتعقيداته من محوها أو حتى ركنها بعيدا في ذاكرة تمتلئ كل يوم بتفاصيل أخرى قد تفوقها تشابكا وتعقيدا ...
الثلاثاء : 27 شعبان 1996 بيت حبابي
امتلأ الحوش بأعداد كبيرة من النساء والرجال أيضا ، الصراخ كان عاليا، لم استطع وقتها أن ادخل إلى الدهريز, فثمة أمر لم افهمه, أو ربما لم أكن ارغب في تصديقه, نسيت القسمة المطولة, امتحان الرياضيات, حمى أختي, ورحت انظر إلى كل ما كان يحدث بصمت وخوف شديدين..
كل الوجوه كانت مألوفة لدي من نساء ورجال, ولكن أمي, خالاتي, جدتي, أبي, احمد, وه ل ا ل لم يكونوا هناك, أحسست بوحدة وألم قوي يخنقني, لم تذرف عيني دمعة واحدة, كل شي كان غريبا ومرعبا, تفقدت كل من كانوا في الحوش , كلهم كانوا كبارا وكنت الطفلة الوحيدة..
لم يوقظني من سرحاني وصمتي إلا تابوت ابيض رأيت أبي وعمي وآخرين يحملانه, شعرت ببعض الأمان لرؤية عمي وأبي
تخرج بعدها عمتي أصيلة, جداتي, خالاتي, عمتي , ونساء كثيرات وقفن بمسافة بعيدة قليلة عنهن, اقتربت من التابوت , رايته يفتح , وعمتي أصيلة تبكي مغطية وجهها بلحافها,, اقتربت أكثر , وإذا برجل نحيل ربما كان احد أقربائنا البعيدين يقول لي: ايش تسوي هنا, روحي..
نعم رايته, كان هلال ينام على التابوت بهدوء, وكامل جسده قد غطي بالأبيض..
وقتها فهمت درسا أصعب بكثير من القسمة المطولة, أصعب بكثير من أن تستوعبه طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها ..
طفلة فقدت جدتها قبل سنين ثلاث , وفهمت أن الكبار وحدهم من يموتون..
في ذلك اليوم عرفت أن الصغار أيضا يموتون.
نعم , صدقوني فهلال لم يكن كبيرا أبدا...
(2)
العاشرة مساء من مساء اثنين ما حيث يوافقه السادس والعشرون من شعبان لعام 1996 قررت أمي أن ننتقل للمبيت في بيت جدي الذي يبعد مسافة ثلاث كيلومترات عن بيتنا الأبيض, ومرد قرار كهذا في وقت يعد متأخرا بعض الشيء في ذلك الزمن هو حمى أصابت أختي الصغرى التي لم يكن عمرها يتجاوز الشهرين ائنذاك
لم تكن نومة هانئة وثمة قلق كبير ساورني وقتها لسببين لا ثالث لهما : حمى أختي, وامتحان الرياضيات الذي كان على الأبواب..
(3)
ابرأ
لموسم الصيف في بيت حبابي (1) طعم مختلف تماما عن بيتنا الأبيض خصوصا إن كان سوق السفالة قد بدا يمتلئ باللمبا الغض(2) الذي تزوغ له الأعين من بعد, ويسيل له اللعاب باستحياء.
أنا وهلال واحمد نفترش الدهريز(3) في بيت حبابي مقابلين التلفاز نترقب رعد العملاق(4) على قناة عمان التي لا اذكر حقيقة إن كانت ملونة أم لا!!!!
يأتي هلال بفرامة الجزر , ليفرم كل اللمبا الموجود في الكيس البلاستيكي ويتبله بكثير جدا من الملح والفلفل الأسود والأحمر,ولم يكن أبدا جائزا أن نبدأ في تناول وجبة الصيف الشهية هذه إلا بعد أن يبدأ رعد العملاق , حتى وان انتهى الكبير هلال من فرم اللمبا قبل بدء الرسوم , لم يكن بيدنا أخي وأنا إلا أن نرضخ لرغبته مضطرين غير باغين وإلا لحرمنا من اللمبا!!
بعدها بساعة تأتي عمتي أصيلة من المطبخ منهكة بعد أن تكون قد فرغت من غسل وعيان(5) الغداء لتسأل: هين(6) اللمبا؟
نجلس نحن الثلاثي مبحلقين على رعد العملاق وهو يستعرض بطولاته , وسؤال العمة يبقى معلقا , ووحده الكيس البلاستيكي الأزرق الفارغ يتولى مهنة الإجابة عليه بصمت مفهوم جدا!!
(4)
الدريز:
بعد الليلة الغير هانئة التي قضيتها في بيت حبابي بسبب امتحان الرياضيات والقسمة المطولة , انتقلت إلى بيت حبابي الاخر في الدريز لتشاطرني خالتي التي تكبرني بثلاثة أعوام الهم , ولتريحني من هم القسمة المطولة التي لم أكن لأفهمها لأعوام ثلاث بعد الابتدائية!!
في ظهيرة ذلك اليوم وأنا متغطية بغطاء ازرق مع ورود بيضاء متظاهرة بالنوم , ولا أفكر إلا بالقسمة المطولة, خالتي في السرير المقابل تغرق في سبات عميق, رن الهاتف الأحمر داخل الغرفة بصوت قوي هز كيان قلبي وحدثتني نفسي بأن ثمة مكروه قد حدث , ومن يومها إلى الآن واتصالات الظهيرة تفطر قلبي..
ردت خالتي النائمة على الهاتف بصوت ناعس, كانت جدتي المتصلة من مسقط تقول بأنها وخالي سيأتيان إلى ابرأ في ذلك اليوم..
انتهت المكالمة, عادت خالتي لتنام , وعدت لأفكاري السابقة وقلقي من الامتحان, متناسية أنا وخالتي بأن اليوم كان الثلاثاء أي انه يوم دوام , فلم يأتي خالي مع جدتي إلى ابرأ؟ , خصوصا بأن الوقت الذي كانت جدتي قد قضيته في مسقط يعتبر قصيرا جدا لينهي كل مشاويرها وزياراتها!..
يدخل بعدها بحوالي نصف ساعة خالي الذي كان في سنته الثانوية الأخيرة, ليخبر خالتي بهدوء عن أمر لم افهمه, تنفجر هي باكية , ينظر اللي خالي الذي يحاول تهدئتها بلا جدوى , كنت صامتة وخائفة جدا, صوت رنين الهاتف لا زال يتردد على أذني , تقترب مني خالتي وتصرخ: هلال مااااات. ماااااات
ينظر اللي خالي ويقول : لا رحمة , ما مات , ما مات
لم افهم , أو ربما لم أكن أريد أن افهم , كانت خالتي الصغرى تراقب كل ما يحدث صامتة وبلا مبالاة وترسم او ربما تلون رسمة ما في كراستها, ركضت إلى الحمام الشاوري(7) , جلست أتأمل وجهي أحدث نفسي مقابلة المرآة ,أغالب دمعي واكذب على نفسي .. لا لا لم يمت
اليوم: افتقد هلال كثيرا , أتمنى لو كان خالي محقا عندما نفى حقيقة موته ,افتقد صيف بيت حبابي واللمبا الغض, وصراعاته معي عندما ألحق به إلى المدرسة ليلعب كرة القدم مع زملائه , ليشكيني إلى عمتي أصيلة فور عودته الى البيت: ماه , هذيه تفضحني قدام أصدقائي , مسكيها والا بشلها بكف..
لم يعد هلال موجودا , لكن توقيعه(أبو لؤي ال ....) التي نقش به جدار غرفته لا زال موجودا , والملصقات القرآنية التي ألصقها في خزانة ملابسه لا زالت كما هي , البطاقة التي أهداني إياها في مطلع سنة ميلادية ما لا زلت احتفظ بها , ولا زالت ذاكرتي تختزن كل تفاصيل حديثنا وضحكنا ولعبنا إياه واحمد, ولن يكون الزمن كفيلا أبدا بأن ينسينا إياك يا هلال..
غفر الله لك, وأدخلك فسيح جناته
(1): جدي
(2): المانجو الغير ناضج الشديد الحموضة
(3): الدهليز
(4):رسوم متحركة
(5): أواني
(6): أين
(7): الخارجي
الحكاية الثانية : هلال
التاريخ: 27 شعبان 1996( إن لم تخني الذاكرة)
المكان: بيت حبابي الكائن في سفالة ابرأ
(1)
ابرأ
ثمة تفاصيل دقيقة تحتضنها الذاكرة بتعنت مدهش , ويعجز الزمن بكل أحداثه وتعقيداته من محوها أو حتى ركنها بعيدا في ذاكرة تمتلئ كل يوم بتفاصيل أخرى قد تفوقها تشابكا وتعقيدا ...
الثلاثاء : 27 شعبان 1996 بيت حبابي
امتلأ الحوش بأعداد كبيرة من النساء والرجال أيضا ، الصراخ كان عاليا، لم استطع وقتها أن ادخل إلى الدهريز, فثمة أمر لم افهمه, أو ربما لم أكن ارغب في تصديقه, نسيت القسمة المطولة, امتحان الرياضيات, حمى أختي, ورحت انظر إلى كل ما كان يحدث بصمت وخوف شديدين..
كل الوجوه كانت مألوفة لدي من نساء ورجال, ولكن أمي, خالاتي, جدتي, أبي, احمد, وه ل ا ل لم يكونوا هناك, أحسست بوحدة وألم قوي يخنقني, لم تذرف عيني دمعة واحدة, كل شي كان غريبا ومرعبا, تفقدت كل من كانوا في الحوش , كلهم كانوا كبارا وكنت الطفلة الوحيدة..
لم يوقظني من سرحاني وصمتي إلا تابوت ابيض رأيت أبي وعمي وآخرين يحملانه, شعرت ببعض الأمان لرؤية عمي وأبي
تخرج بعدها عمتي أصيلة, جداتي, خالاتي, عمتي , ونساء كثيرات وقفن بمسافة بعيدة قليلة عنهن, اقتربت من التابوت , رايته يفتح , وعمتي أصيلة تبكي مغطية وجهها بلحافها,, اقتربت أكثر , وإذا برجل نحيل ربما كان احد أقربائنا البعيدين يقول لي: ايش تسوي هنا, روحي..
نعم رايته, كان هلال ينام على التابوت بهدوء, وكامل جسده قد غطي بالأبيض..
وقتها فهمت درسا أصعب بكثير من القسمة المطولة, أصعب بكثير من أن تستوعبه طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها ..
طفلة فقدت جدتها قبل سنين ثلاث , وفهمت أن الكبار وحدهم من يموتون..
في ذلك اليوم عرفت أن الصغار أيضا يموتون.
نعم , صدقوني فهلال لم يكن كبيرا أبدا...
(2)
العاشرة مساء من مساء اثنين ما حيث يوافقه السادس والعشرون من شعبان لعام 1996 قررت أمي أن ننتقل للمبيت في بيت جدي الذي يبعد مسافة ثلاث كيلومترات عن بيتنا الأبيض, ومرد قرار كهذا في وقت يعد متأخرا بعض الشيء في ذلك الزمن هو حمى أصابت أختي الصغرى التي لم يكن عمرها يتجاوز الشهرين ائنذاك
لم تكن نومة هانئة وثمة قلق كبير ساورني وقتها لسببين لا ثالث لهما : حمى أختي, وامتحان الرياضيات الذي كان على الأبواب..
(3)
ابرأ
لموسم الصيف في بيت حبابي (1) طعم مختلف تماما عن بيتنا الأبيض خصوصا إن كان سوق السفالة قد بدا يمتلئ باللمبا الغض(2) الذي تزوغ له الأعين من بعد, ويسيل له اللعاب باستحياء.
أنا وهلال واحمد نفترش الدهريز(3) في بيت حبابي مقابلين التلفاز نترقب رعد العملاق(4) على قناة عمان التي لا اذكر حقيقة إن كانت ملونة أم لا!!!!
يأتي هلال بفرامة الجزر , ليفرم كل اللمبا الموجود في الكيس البلاستيكي ويتبله بكثير جدا من الملح والفلفل الأسود والأحمر,ولم يكن أبدا جائزا أن نبدأ في تناول وجبة الصيف الشهية هذه إلا بعد أن يبدأ رعد العملاق , حتى وان انتهى الكبير هلال من فرم اللمبا قبل بدء الرسوم , لم يكن بيدنا أخي وأنا إلا أن نرضخ لرغبته مضطرين غير باغين وإلا لحرمنا من اللمبا!!
بعدها بساعة تأتي عمتي أصيلة من المطبخ منهكة بعد أن تكون قد فرغت من غسل وعيان(5) الغداء لتسأل: هين(6) اللمبا؟
نجلس نحن الثلاثي مبحلقين على رعد العملاق وهو يستعرض بطولاته , وسؤال العمة يبقى معلقا , ووحده الكيس البلاستيكي الأزرق الفارغ يتولى مهنة الإجابة عليه بصمت مفهوم جدا!!
(4)
الدريز:
بعد الليلة الغير هانئة التي قضيتها في بيت حبابي بسبب امتحان الرياضيات والقسمة المطولة , انتقلت إلى بيت حبابي الاخر في الدريز لتشاطرني خالتي التي تكبرني بثلاثة أعوام الهم , ولتريحني من هم القسمة المطولة التي لم أكن لأفهمها لأعوام ثلاث بعد الابتدائية!!
في ظهيرة ذلك اليوم وأنا متغطية بغطاء ازرق مع ورود بيضاء متظاهرة بالنوم , ولا أفكر إلا بالقسمة المطولة, خالتي في السرير المقابل تغرق في سبات عميق, رن الهاتف الأحمر داخل الغرفة بصوت قوي هز كيان قلبي وحدثتني نفسي بأن ثمة مكروه قد حدث , ومن يومها إلى الآن واتصالات الظهيرة تفطر قلبي..
ردت خالتي النائمة على الهاتف بصوت ناعس, كانت جدتي المتصلة من مسقط تقول بأنها وخالي سيأتيان إلى ابرأ في ذلك اليوم..
انتهت المكالمة, عادت خالتي لتنام , وعدت لأفكاري السابقة وقلقي من الامتحان, متناسية أنا وخالتي بأن اليوم كان الثلاثاء أي انه يوم دوام , فلم يأتي خالي مع جدتي إلى ابرأ؟ , خصوصا بأن الوقت الذي كانت جدتي قد قضيته في مسقط يعتبر قصيرا جدا لينهي كل مشاويرها وزياراتها!..
يدخل بعدها بحوالي نصف ساعة خالي الذي كان في سنته الثانوية الأخيرة, ليخبر خالتي بهدوء عن أمر لم افهمه, تنفجر هي باكية , ينظر اللي خالي الذي يحاول تهدئتها بلا جدوى , كنت صامتة وخائفة جدا, صوت رنين الهاتف لا زال يتردد على أذني , تقترب مني خالتي وتصرخ: هلال مااااات. ماااااات
ينظر اللي خالي ويقول : لا رحمة , ما مات , ما مات
لم افهم , أو ربما لم أكن أريد أن افهم , كانت خالتي الصغرى تراقب كل ما يحدث صامتة وبلا مبالاة وترسم او ربما تلون رسمة ما في كراستها, ركضت إلى الحمام الشاوري(7) , جلست أتأمل وجهي أحدث نفسي مقابلة المرآة ,أغالب دمعي واكذب على نفسي .. لا لا لم يمت
اليوم: افتقد هلال كثيرا , أتمنى لو كان خالي محقا عندما نفى حقيقة موته ,افتقد صيف بيت حبابي واللمبا الغض, وصراعاته معي عندما ألحق به إلى المدرسة ليلعب كرة القدم مع زملائه , ليشكيني إلى عمتي أصيلة فور عودته الى البيت: ماه , هذيه تفضحني قدام أصدقائي , مسكيها والا بشلها بكف..
لم يعد هلال موجودا , لكن توقيعه(أبو لؤي ال ....) التي نقش به جدار غرفته لا زال موجودا , والملصقات القرآنية التي ألصقها في خزانة ملابسه لا زالت كما هي , البطاقة التي أهداني إياها في مطلع سنة ميلادية ما لا زلت احتفظ بها , ولا زالت ذاكرتي تختزن كل تفاصيل حديثنا وضحكنا ولعبنا إياه واحمد, ولن يكون الزمن كفيلا أبدا بأن ينسينا إياك يا هلال..
غفر الله لك, وأدخلك فسيح جناته
(1): جدي
(2): المانجو الغير ناضج الشديد الحموضة
(3): الدهليز
(4):رسوم متحركة
(5): أواني
(6): أين
(7): الخارجي