ابتعدت كثيرا جدا عن هذا المكان الذي كان
لفترة طويلة سابقة ملجأ لكل عارض من الفرح
أو الإكتئاب على حد سواء. اليوم أعيش في دائرة مغلقة محاطة بأسوار تشتد سماكتها
يوما بعد يوم بإختياري ولا أملك التذمر حيالها لأنني أؤمن جدا بان حياتنا هي ما
تصنعه أفكارنا وقرارتنا .
في حقيقىة الأمر لم تكن وحدتي نتاج قرار شخصي
بحت بل نسبة كبيرة منها كانت نتاج فترة البؤس والبطالة الطويلة جدا التي جربت فيها
كل المشاعر الإنسانية التي يمكن أن يشعر بها من عاش مائة عام حياة مملوءة بشتى
أنواع المصاعب والمغامرات والقوة والضعف على حد سواء.
ولأكون منصفة في حق السنوات الأربع الأخيرة
من عمري, سأقر وأعترف, بأن الفضل الأكبر في نمو وعي القرائي والكتابي والمعرفي كان
يعود إليها ,فهي من خلقت مني رحمة مختلفة تماما عما كانت عليه قبل أربع سنوات
سابقة ,وأقصد بالاختلاف هنا هو الاختلاف الايجابي بالطبع.
في خلال السنوات الأربع الماضية قرأت ما
يقارب 110 كتابا في شتى المجالات, وان كان معظمها يصب في صالح الأدب. تعلمت عادة
أن أقرأ باللغة الانجليزية حتى وصلت لدرجة متقدمة أصبحت أستطيع فيها قراءة رواية
من 450 صفحة في غضون أسبوع فقط..
علمتني فترة البطالة كيف أكون قارئة متذوقة
إلى حد جيد,وكيف أنقد وأفند وأقيم كل ما أقرأه دون التحيز لكاتب أو لون مفضل من
القراءات ..
ساعدتني هذه المرحلة من حياتي بأن أتصالح مع
الكتابة إلى حد ما ,فلطالما كنت أعتقد بأنني كاتبة فاشلة وأعجز دوما عن التعبير عن
أفكاري بأسلوب وجيز وبأبسط الطرق.
كشفت لي هذه الأربع سنوات من عمري الكثير مما
كنت أجهله عن نفسي .أكدت لي بقوة كيف أنني كائن شرس بامتياز عندما يتعلق الأمر بحريتي الشخصية ,وكيف أنني
على أهبة الإستعداد لأن أخسر أيا كان من البشر لمجرد محاولته الإقتراب من عالمي
الخاص بل الخاص جدا.
وبأنني أعشق الحرية بشكل عجيب , ولتسقط معي
كل تقاليد وعادات المجتمع إن كانت مجاراتها والإمتثال لها سيمس شيئا من استقلاليتي
وحريتي..
فهمت جيدا بأن الإحباط حالة صحية جدا على ألا
تطول ,وبأنها مرحلة عابرة تستسلم فيها النفس للحزن وشيئ من البؤس لتعود أكثر قوة
وصلابة مما كانت عليه..
ولأعترف أيضا بأن هذه السنوات الأربع أفقدتني
كل علاقاتي الإجتماعية السابقة وجعلتني كائنا افتراضيا بامتياز,حيث أن كل علاقاتي
الإجتماعية لا تتعدى أن تكون حوارات عابرة وأغلبها لا تسمن ولا تغني من جوع في عوالم افتراضية مظلمة .. وأسهمت بشكل كبير
في تراجع ثقتي بنفسي فيما يخص الجانب الإجتماعي من حياتي ,حيث أنها كرست بداخلي حب
عميق ومخيف للوحدة والعزلة لدرجة أن حضور أي مناسبة اجتماعية بات لي كمن يساق إلى
الموت , وحتى أن دوري فيها لا يتعدى أن يكون ثانويا صامتا بذهن مشتت ورغبة قوية
للعودة إلى منفاي وعزلتي وكتبي..
ولأننا نحن البشر نتلذذ بممارسة أنواع شتى من
وسائل خداع الذات فإنني أقول لذاتي ثم لكم بأنني سأتجاوز الفقرة السابقة وسأركز
على ما سبقها منذ بداية المقال.. كم نحن بحاجة إلى خداع كهذا أحيانا!!
أن تكون كائنا بسقف توقعات عالية ,يعني أن
تكون دائما عرضة لخيبات أمل كبيرة بالأخص اذا كنت تحيا بين عقول يصعب عليك التوافق
معها,ليس بالضرورة لأنك أكثر وعيا وتفتحا منها بل لأن نقطة التقاءك معها ضعيفة
لدرجة كبيرة !! خيبات الأمل المستمرة تكسبك مناعاة قوية ضد الإنكسار وتجعلك عنيدا
بعض الشيء في التمسك بهذه التوقعات أو ربما رفع سقفها أيضا..
ليس سيئا أبدا بأن تكون ذو سقف توقعات عالية
وإن كان من حولك- وهم الأغلبية طبعا- يحاول
التثبيط من عزيمتك حيال الأمر,لأن رأي الأغلبية لا يعبر بالضرورة عن ما هو
صائب دوما..
من الجميل أن تكون صريحا وعاريا جدا أمام
نفسك , وتكون دائم التأنيب لها ,فأنت بذلك تخلق فرصة جيدة لولادتها من جديد,ولكن
عليك بأن لا تنتهج الأسلوب ذاته في جميع الحالات,فثمة حالات تتطلب عناية وأساليب
خاصة.
هاهو
ديسمبر يقبل علينا ضيفا ,وما أجمله من ضيف.أحب ديسمبر بنفس الدرجة التي أخشاه بها
..في ديسمبر تنتهي كل الأحلام لتبدأ أخر ,وهو شهر الحساب حيث فيه يكرم المرء أو
يهان..
في ديسمبر كانت صرختي الأولى ,وفي التاسع عشر
منه هذا العام سأكمل الثامن والعشرين من عمري.
أعتقد جدا بأننا نملك ما يكفي من الأسباب
لنحب ذواتنا ونعتد بها حتى لو لم نكن نعيش
معها في حالة تصالح وانسجام.
ثماني وعشرون عاما مرت بلا رجعة ,تعلمت فيها
الكثير, وتمنيت الكثير,أجهضت أحلاما ووجدت أخر ولا زلت في قيد البحث عن الكثير..
كل ما أذكره هو تلك الطفلة التي تجلس على
الأرجوحة وتقرأ رواية لأجاثا كريستي التي ماتت فيها البطلة ب سم الزرنيخ , ودميتي
التي كانت تصل لثلاثة أرباع طولي التي كسر أخي الأكبر رجلها , ودفتر الملصقات
الأحمر الذي بقيت أبكيه أسبوعا بعدما أقنعني أخي بتلوين بعض من صفحاته بالأسود,
نتيجة الثانوية العامة , حفل التخرج من الكلية
.......................................
لا أعلم كم من الزمن سأعيش ,ولست أدري ان كان
في الذاكرة متسع لذكريات جديدة , ولكنني أعرف جيدا كم تغيرت وكم كبرت ,كبرت
لدرجة لم يعد بإمكاني تذكر بأنني كنت يوما
في العاشرة من عمري.
كل عام وأنا بخير ,سأقولها مرة أخرى لنفسي في
19 من ديسمبر المقبل,وسأبتاع لنفسي باقة ورد حمراء من محل برزمان في الغبرة
الشمالية, وسأشتري أيضا هدية –لم أفكر بعد في ماهيتها- في غلاف أحمر أنيق, لأنني أ
س ت ح ق ..
من قال بأننا يجب أن ننتظر أحدهم بأن يتذكر
أعياد ميلادنا ويهدينا باقة ورد ويبعث لنا برسالة في الثانية عشر ليقول لنا
"كل عام وأنت بخير,والعمر كله إن شاء الله" !!!
لنفعل ذلك لأنفسنا..
طوال فترة طويلة من أعياد ميلادي السابقة
كانت تراودني أمنية مجنونة بأن يأتيني اتصال من محل للورود ليخبرني بأن هنالك من يهديني
باقة ورد وهدية , وكنت من شدة غبائي اظل طوال اليوم أترقب وأتفقد هاتفي, رغم انه
لم يكن هنالك قط من الأحدهم من الجنسين من كان متوقعا أن يفعل أمرا كهذا..هذا
العام سأحقق هذه الأمنية لنفسي وبنفسي..
بعض الجنون فنون..
\2013-11-30
1:24 am
Ibra